من يقاتل جيشنا الوطني في الشعانبي وكذلك من قاتل قوات الأمن في أماكن كثيرة في تونس يحملون نفس فكر واستراتيجية وأهداف من يقاتل في سوريا. حيث لا يمكن الفصل بين القتال في أرض الشام والقتال في أرض تونس خاصة أو المغرب العربي عامة.
في الجزائر سنة1992 أول من رفع السلاح ضد الدولة هم «الجزائريون الأفغان» أي الشباب الذي قاتل ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. خرجوا من بلادهم شبابا مسالما ثم عادوا إرهابيين مستعدين للقتل وللذبح ولارتكاب أبشع أنواع المجازر…
يبدو أن السيناريو يتكرر أيضا في تونس. فعدد «الجهاديين التونسيين» في سوريا أصبح ملفتا للنظر. المأساة في هذا الأمر أن قادة رأي تونسيين شجعوا الشباب على مقاتلة الجيش العربي السوري لصالح إسرائيل وأمريكا وآل سعود وآل ثاني: أكثر الدول استفادة من تدمير سوريا وجيشها.
القيادي في حركة «النهضة» الحبيب اللوز في احدى حواراته الصحافية ذكر أنه لو كان شابا لذهب «للجهاد في سوريا» وكذلك الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي الذي اختار الدوحة قاعدة جديدة له يشجع على «الجهاد في سوريا» وينتقد من يحاول منع شبابنا لتجربة مغامرة القتال في أرض الشام… أبو يعرب المرزوقي كان «تجمعيا» ثم أصبح قوميا عربيا ثم مرشحا على قوائم النهضة في المجلس التأسيسي ثم هاجمها بسبب عدم تقديمها لمنصب مهمّ له… وهو اليوم «يجاهد» فكريا مع عزمي بشارة من على منبر قناة «الجزيرة» للتبشير «بزمن الحرية والديموقراطية القطرية» في الوطن العربي.
لم يسأل الحبيب اللوز وأبو يعرب المرزوقي نفسيهما يوما : هل يجوز الجهاد في قطر لتحريرها من قاعدتي «العيديد» و«السيلية» الأمريكيتين؟ أو لا تنطلق الطائرات وصواريخ توما هوك كروز غالية الثمن/ مليون ونصف من الدولارات للصاروخ الواحد/ لتقصف بغداد وطرابلس وكابول؟ أو لا يعد فقه الجهاد الإسلامي قطر «دار حرب» حيث ينطلق منها اليوم أي عدوان على المسلمين؟ كيف يمكنهما أن ينظّرا للجهاد ضد الجيش العربي السوري والمقاومة اللبنانية اللذين خاضا كل الحروب نيابة عن العرب ضد إسرائيل وآخرها حرب جويلية 2006 التي مثلت انتصارا للمقاومة ونكسة للكيان الصهيوني. كيف يصبح «الجهاد» في سوريا وينعدم في فلسطين أو في قطر؟
الجهاد الحقيقي في تونس
الشعب التونسي قام بواجبه في الجهاد فقاتل الاستعمار الفرنسي وخلد بطولات المجاهدين من مصباح الجربوع إلى خليفة بن عسكر إلى محمد الدغباجي إلى بشير بن سديرة… في أغاني وأشعار شعبية ملحمية… والشعب في تونس أيضا شجع واحتفى بكل من جاهد في فلسطين أو في الجنوب اللبناني واستشهد … أما «الجهاد» ضد جيش عربي شارك في كل الحروب العربية الإسرائيلية ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية باستمرار فتلك لعَمري «بدعة قطرية سعودية».
حكام قطر الذين يزورون باستمرار تل أبيب سرا وعلنا والذين يمولون حروب أمريكا في الوطن العربي هم اليوم من ينفخون في نفير «الجهاد» ضد سوريا. سوريا التي استقبلت كل العرب سياحة أو دراسة دون تأشيرة على عكس آل سعود وآل ثاني، وسوريا التي حققت اكتفاء ذاتيا في الكثير من القطاعات الاقتصادية وهي البلد العربي الوحيد الذي يصدر القمح… تصبح «ديار حرب»…
اعطوني اسما واحدا لمجاهد واحد حارب الاستعمار البريطاني في قطر أو في السعودية؟ من يريد أن يعرف من أسس دولة قطر أو دولة السعودية وكيف تم ذلك عليه أن يعود إلى أرشيف وزارة المستعمرات الشرقية البريطانية وسيجد مبتغاه؟…
اعطوني نصا وهابيا واحدا سعوديا أو قطريا تحدث عن ملائكة خُضر أو بيض قاتلت أمريكا في أفغانستان أو أمريكا في العراق أو إسرائيل في فلسطين أو في لبنان؟ …
الملائكة الوهابية الخضراء لم تقاتل طيلة عمرها إلا في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي ثم اختفت لأكثر من عقدين ولتعود لمقاتلة الجيش العربي السوري في «بابا عمرو» في حمص هذه المرة وعلى لسان الشيخ العريفي الموظف في قناة «اقرأ» السعودية التي تمتلكها الممثلة المصرية صفاء أبو السعود وزوجها صالح كامل. وهي قناة تتبع مجموعة «أرتي»، بما «فيها أرتي فيديو كليب» التي صنعت هيفاء وهبي ونانسي عجرم…
أعطوني شيخا موظفا عند آل سعود أو آل ثاني ذهب للجهاد في سوريا أو حتى أحد أبنائه أو أقاربه؟
إن الأفكار الوهابية السعودية القطرية التي تحرك شبابنا نحو سوريا هي نفسها التي تحركهم في جبل الشعانبي: تكفير أبناء بلدك والدخول معهم في مواجهة لصالح الدوائر التي تحكم وتتحّكم في الرياض وفي الدوحة…
لا تاريخية مفهوم الجهاد
مفهوم الجهاد المتداول اليوم هو مفهوم يتميز بلا تاريخيته. أي هو أُخذ من نسق تاريخي محدد ليفرض على واقع غير متجانس معه. وإنما ترعرع هذا المفهوم فقط على المستوى الذهني لمن يؤمن به. فهو مفهوم ذهني ولكنه مستحيل وغير منطقي في عالمنا اليوم. لذلك يعتبر بعضهم ضرب المدنيين في نيويورك وواشنطن عملا جهاديا يستحق التنويه والتثمين، أما أكثرهم فلا يري في مثل هذه الأعمال إلا خسارة تلحق بالإسلام أولا وذلك من خلال تشويه صورته، وخسارة تلحق بصورة القضية الفلسطينية لدى الرأي العام الدولي، هذه الصورة التي اكتسبت منذ آخر انتفاضة كثيرا من الأصدقاء والمتعاطفين.. في كل الأحوال لابد من تأكيد لا تاريخية الخطاب الجهادي المعاصر. واللاّتاريخية Ahistorique، تعني نزع مفهوم من سياقه التاريخي الخاص وإقحامه في نسق مغاير تماما للنسق الذي ظهر فيه.
نحاول هنا البحث في مستويين من العنف الأصولي الحاصل في العالم اليوم. يعتمد المستوي الأول تحليل الخطاب. أما المستوى الثاني فيتعلق بالحركة. مع تبنينا لمقولة إن الخطاب نفسه يمثل في أحد صوره حركة. فالكلمة يمكن أن تكون إرهابا.
مقاربة علم السياسة
يقول «دومنيك فيزلار» عالم السياسة السويسري بصدد العنف: « يخيل إلينا عادة أن العنف السياسي ينبع من خارج الواقع الاجتماعي المعيش. وعند بروزه المفاجئ الصدامي، نلتجئ إلى وصفه بالقطيعة، باللاعقلانية، ثم نطلب من علم النفس أن يفسره لنا». يرتبط عنف بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية المنشقة بنسق فكري عقائدي بشكل وثيق. يتميز هذا النسق بغلبة صفة دينية أسطورية عليه. إنه حسب اعتقادقهم واجب، أو فرض باللغة الدينية، يجب على كل مسلم تأديته. إنه الجهاد.
سوسيولوجيا الجهاد
حاول الفكر الديني السلفي، عبر هذا المفهوم، تقسيم العالم إلى قسمين متقابلين: أي دار الإسلام من جهة ودار الحرب من جهة أخرى. فبالنسبة إلى الأرثودوكس الإسلاميين، يعد الجهاد حربا تُخاض ضد الآخرين، كما تخاض ضد الأنا. أي أنها ضد العدو الخارجي كما هي في الوقت نفسه ضد العدو الداخلي، أي النفس. أي ضد ضعف المسلم وعدم كماله.
بالنسبة إلى الجهاد ضد العدو الداخلي المتمثل في النظام القائم، يتمزق الإسلاميون في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي، مثلهم مثل كل الحركات الإسلامية السنية، بين خيارين استراتيجيين متناقضين. الخيار الأول يعتمد على مفهوم الأسلمة من القاعدة في حين يعتمد الخيار الثاني على مفهوم الأسلمة من القمة. هذا التقسيم وقع التفطن إليه والتنظير له من قبل بعض الباحثين الغربيين المهتمين بالحركات الإسلامية. يعتبر «جان فرانسوا بايار» أول من انتبه إلى هذا التقسيم عندما ميز بين العمل السياسي من القمة والعمل السياسي من القاعدة. ثم طبقها فيما بعد على الحركات الإسلامية عالم الاجتماع الفرنسي جيل كيبيل وزميله المختص في الحركات الإسلامية «أوليفيي روا» اللّذان ميزا بين أسلمة ثورية من القمة وأسلمة اجتماعية من القاعدة. يرى «كيبيل» أن تطور الاحتجاج الإسلامي لم يتم في منهج خطي. فهو ينبهنا إلى تغيير في استراتيجية الحركات الإسلامية منذ سنوات الثمانينيات. منذ هذه السنوات فضلت الحركات الإسلامية التى شدت انتباه السلطات ووسائل الإعلام (…) عملية الأسلمة من الأسلمة من القمة أم من القاعدة القمة.
إن الاتجاه الذى يعتمد علي الأسلمة من القاعدة يعكس دائما منهجا سلميا في العمل السياسي. فهو يلفظ صراحة العنف، ويؤمن بالتربية والتعليم اللذين لابد أن يشملا كل السكان، كل طبقاتهم حتى ولو تناقضت اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. فهم يهدفون على مدى بعيد إلى امتصاص كل المعارضات التي تواجه مشروعهم الإسلامي. ومن ثمة أسلمة المجتمع كافة، بما فيه مؤسسات الدولة مثل الجيش والشرطة والأحزاب السياسية والنقابات… يعتقد هذا الاتجاه أن الزمن سيلعب في نهاية المطاف لصالحه. نجد لهذا الخيار تجسيدا في حركات الإخوان المسلمين خاصة في تونس وفي مصر والأردن وكذلك في «حمس» في الجزائر أو حتى تيار الجزأرة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة.
الخيار الثاني
أما الخيار الثاني فيتعلق بالأسلمة من القمة. هذه الاستراتيجية تعتمد على العنف المسلح للوصول إلى السلطة. فهي تعتقد في الجهاد في بعده المادي وليس الروحي. وترى أنه لا بد للحركات الإسلامية من الانقضاض على أجهزة الدولة حتى تؤسلم المجتمع بالعنف، عنف الدولة المنظم على حد تعبير «ماكس فيبر». إنها ترفض «جاهلية المجتمع» وتهدف إلي إعادة صياغته طبقا لما تعتقد أنه الشريعة الإسلامية.
اللجوء إلى العنف
تعتقد هذه الاستراتيجية أنه يجب على الحركة الإسلامية، وهي حركة عالمية تهدف إلى تأسيس ما يماثل أممية إسلامية، أن تستخدم العنف حتى تستولي على السلطة متجسدة في أجهزة الدولة وخاصة القوات المسلحة والشرطة للتمكن لاحقا من بناء المجتمع الإسلامي. فالدولة القهرية هي التي يجب أن تبني المجتمع الذي يناسبها وليس العكس. لقد تأثرت هذه النزعة ــ الاستراتيجية بمفكرين معروفين، هما السيد قطب من مصر وأبو الأعلى المودودي من باكستان. لقد برر الاتجاه المتطرف في كل الحركات الإسلامية المسلحة أعمال العنف التي قاموا بها أو مازالوا يقومون بها معتمدين على مثل هذه المراجع السياسية الدينية. ومن ثمة لابد من التطرق لأفكار هذين المفكرين.
موقف بادي
يشرح عالم الاجتماع الفرنسي برنارد بادي في كتابه «الدولتان» مسألة الجهاد فيكتب أن واجب المؤمن لم يعد قاصرا على احترام وجوب الأمير والحاجة إليه، حتى ولو كان غير عادل، ولكنه على العكس، يتعدى ذلك ليصل إلى معركة تحرير الإنسان من عدوه الداخلي ومن عدوه الخارجي. أي من الكافر كما من المؤمن الذي يعمل لصالحه أو ببساطة يقلده. ويضيف بادي : إن المعركة من أجل الـله تصبح مطلقا حتى أن حجة الفرصة أو الضرورة لا يمكنهما أن يوقفانها: إن هدفها هو الجاهلية، التي لا توجد في أي واقع جغرافي، وإنما تعني فقط كل نقص في نظام الحقيقة. ومن ثمة يصنف في الخانة نفسها فرعون الأمس أو فرعون اليوم. الأمير الغربي المشرك أو الأمير الشرقي الكافر. القتل، الطغيان أو الثورة جميعهم مقبولون في هذا المشروع، بما أنها عمليات تساهم في إعادة بناء الأمة وذلك في مواجهة فتنة لا يمكن نسبها إلى الحركات الاجتماعية ولكنها تدرك من أجل أن يحدد فعل الأمير الذي لا يطيع القانون.
راديكالية قطب والمودودي
فالخطاب القطبي يعتقد أن الجاهلية تمثل الانحراف عن نهج الإسلام ماضيا أو حاضرا. يقول السيد قطب : «فنحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية… تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما تحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا…هو كذلك من صنع هذه الجاهلية.
ومن هنا يصبح خطاب الإسلاميين خطاب جهاد. يرى «السيد قطب» أن الجهاد لا يجب أن يكون مقتصرا على دار الحرب بل لا بد أن يتعداه إلى دار الإسلام عندما نجد أن الحاكم أو السلطان لا يطبق قوانين الـله.
أما أبو الأعلى المودودي فهو يميز بصرامة بين الجمهورية الإسلامية والجمهورية الغربية. ففي هذه الأخيرة تأتي السلطة من الجماهير: إن صلاحيات الحكم وتنفيذ الأوامر (…) هي من احتكار الجماهير التي تمسك بدواليب السلطة، تشرع الجماهير، وتطبق كل التشريعات التي تعرضها. النتيجة، أن هدف مثل هذه الحكومات سينحصر في أفضل الحالات في البحث عن تعاطف جموع المواطنين الذين يشكلون السلطة أما في الإسلام فإن السلطة ملك للـه وحده. وأخيرا يعتقد أن الجماهير مجبرة في الإسلام على التشبث وتطبيق القوانين الشرعية المقدسة التي جاء بها الرسول. ومن جهة أخرى فإن اختيار الأمير يجب أن يمر عبر معايير محددة سلفا بدقة مثل (تقواه)، معرفته الكاملة بالإسلام و قدراته على تصريف شؤون الحكم. ويفسر عبد الغني عماد رأي المودودي بتأثره الشديد ببيئته. ويقول إن السبب يكمن في مناخ الحصار حيث يعيش المودودي عقدة الاضطهاد الاستعماري وقهر الأغلبية الهندوسية التي ترفع شعار: السيادة للأمة، والدولة الديمقراطية، وهذه الشعارات إذا ما طبقت فسوف تحول الأقليات الإسلامية إلى جاليات مقهورة ومغلوبة. في ظل هذا المناخ بدأ استخدام مفهوم الجاهلية الجديدة و الحاكمية للـه بكثافة من قبل المودودي. لا بد من التنبيه مرة أخرى إلى أن قسما كبيرا من الإسلاميين في الوطن العربي بقي حذرا تجاه هذا الفكر الثوري. ويعود ذلك إلى تأثير فكر الإخوان المسلمين المصري بقيادة مأمون… أما النزعة المتطرفة الجهادية فهي تتجسد عمليا في الجماعة الإسلامية المسلحة، ونظريا في الفكر السلفي الجهادي… الذي تم التلاعب به اليوم من قبل أجهزة «الاستخبارات الدولية» والعائلات الثرية في الحاكمة في الدوحة وفي الرياض ليوجه ضد الجمهوريات العربية ويغذي الحروب الأهلية في إطار مشروع «الكابوس العربي»…
قم بكتابة اول تعليق